مكتب البريد الملعون.. وقتها كنا صغاراََ عندما كنا نلعب بالكرة التي كنا نصنعها من الإسفنج ولا أخفي عليكم، كان بعض الاشقياء يصنعونها من الإسفنج الذي يجلبوه من الأتوبيسات العامة.. كما سمعت يا عزيزي! يجلبونها من هناك،أما كيف؟ فكان أحدهم يصعد إلى الأتوبيس ويجلس على كرسي، ثم يخرج آلة حادة ك سكين او شفرة حادة من الذي يستعملها والده في حلاقة ذقته، ويقوم بتقطيع الكرسي وجلب الاسفنج ثم يصنع منه كرة كنا نسميها كرة شراب ولها طريقة في الصنع. نعود مرةََ أخرى إلى مكتب البريد المهجور؛ كان مكتب البريد مهجور في الحي الذي نسكن فيه منذ عشرات السنين، وكان مبنى كبير جداََ يحتمل إنه انشئ أيام الدولة العثمانية أو الاحتلال الإنجليزي، لا نعرف ماهيته فنحن وجدناه هكذا..ولكننا كنا نلاحظ ونحن نلعب أمامه الكرة..إنه لو أحد الصبية الأشقياء صوب الكرة ناحية المرمى،،كنا نسمع أصوات جماهير تصفق بحماس وكأننا نجلس في مسرح روماني في العصور الوسطى..والأغرب أن أحد الصبية كان عندما يصوب ناحية المرمى، الكرة كانت تسدد بطريقة صحيحة وذلك مع سماع الأصوات كم ذكرت لكم. كانت هذه من الأشياء العجيبة وكان يحدث هذا بإستمرار، حتى كنا لا نستطيع التغلب على هذه الثلة من الصبية رغم أنهم لا يفقهون شيئاََ في لعب الكرة ولك أن تعرف إنه لو حاولت مرة منع أحدهم من اللعب معك في فريقك..يسبك باقزع الألفاظ ويلقى في الملعب الأحجار والقاذورات ويدخل بعضهم إلى الملعب لضربك في قدمك فتدحرج على وجهك، وينزف قدمك ووجهك الدماء..يعتبرون أنفسهم أصحاب الكرة لأنهم من صنعوها من الإسفنج المسروق. ويمر الزمن ولا يجرؤ أحدنا على دخول مبنى البريد، كنا دائماََ نمر من أمامه كل يوم أثناء ذهابنا الي المدرسة ولم نتحدث مرة واحدةََ عن الأصوات التي كانت تصدر عندما كنا نلعب الكرة..وكأن كل واحداََ منا يخاف أن يحكي للأخر حتى لا يتهمه بالجنون وأنه يسمع أصوات لا أصل لها.. ولكن كان يراودني شيئاََ بداخلي يحملني دائماََ على اكتشاف ما بالداخل، ياتُرى ما الذي يحدث بداخل هذا المبني العتيق، ما تلك الأصوات التي أسمعها أنا وحدي..ولكن هل أسمعها انا وحدي فعلاََ؟ لا أدري..وفي إحدى الأيام قررت أن أدخل إلى المبنى.. هو في الحقيقة لم أقرر، بل هناك شيئاََ يحملني على ذلك، وبالفعل وقفت أمام بوابته الحديدية الذي يكسوها الصدأ وكان المبنى بالداخل له ساحة كبيرة وله حديقة ذات نبات لا أعرف اسمه ولكنه كان ذابل ونبتت حوله نباتات أخرى متسلقة نسميها نبات شيطاني لأنها تنمو دون زرعها ولا حتى ريها بالماء..نظرت حوالي قبل أن أدخل إلى المبنى حتى لا يراني أحدهم فيقول لوالدى وتكون العواقب لا يحمد عقباها..كانت البوابة الحديدة تسمح لرأسي الصغير وجسمي النحيل أن يخترفها بسهولة.. وبالفعل في لحظة واحدة كنت داخل حديقة المبنى ولم يبقى لي إلا عدة أمتار لأكون داخله واكتشف هذا العالم السري، وأخرج وأحكي لزملائي في المدرسة عن شجاعتي وإقدامي على المغامرة المثيرة..وووو..عندما وطأة قدمي داخل الحديقة شعرت كأن خيال يدنوا من خلف شُحمة أذني ..تغافلته للحظة ولكني إستدرت وأطلقت لقدمي العنان..واتجهت صوب البوابة الحديدية قاصداََ الشارع..وخرجت منها باعجوبة لان البوابة عندما كنت اهرول نحوها كانت تذوب وتكاد تختفي وحولها نار كبيرة..اخترقت البوابة قبل أن تغلق تماما او اصاب بحرق..ووجدت نفسي متدحرجاََ خارج مكتب البريد..ملقي على الأرض اجثو على قدمي وعندما نظرت إلى المكان الذي خرجت منه وجدت إنه قد عاد طببعياََ..هرولت مسرعاََ إلى منزلي وطرقت الباب بشدة ففابلتني امي بدهشة ولم تستطع ان توبخني لأنني دلفت الي غرفتي مسرعاََ واغلقت باب حجرتي جيداََ ووثبت على السرير ووضعت فوق الاغطية وأم أتمكن من جعل جسمي لا ينتفض.. كنت انتفض بشدة لدرجة ان السرير يصدر صرير عالي..ثم غفوت وشعرت ان الغطاء يرتفع إلى أعلى يكاد يلتصق بالسقف..ومن ثم انا الآخر ارتفعت خلف الغطاء ثم دورت دورة كاملة وكأن يداََ قوية خرجت من نصف السرير وجذبتني الي داخل السرير بمنتهى الشدة.. وجدت نفسي كأني اطير داخل بوابة زمنية لا أعرف نهايتها وفجأة وجدتني في مكان مظلم بالكاد أرى كف يدي ثم وضعت يدي على الأرض كي أقف.. لكن الأرض كانت زلقة ورائحة العفن تملأ المكان تحسست ملابسي فوجدت هاتفي مازال في جيبي اخرجته وعلى ضوء مصباحه كنت اتفقد المكان في الوقت الذي رأيت عين مشقوقة تشبه عيون القطط تنظر إلى ثم اختفت..حاولت التحرك من مكاني كنت اشعر اني أقف على رقعة من الأرض زلقة..تجولت بنور هاتفي اتفقد المكان من حولي رأيت مكان متسع به كراسي وأمام الكراسي يوجد شبابيك كل شباك يحمل رقم وشباك مكتوب عليه باللغة الإنجليزية الخزينة وكانت مكتوبة بخط منمق باللغة العربية.. وشباك اخر مكتوب عليه المعاشات.. هنا أدركت اني داخل مبنى البريد.. سمعت انين وبكاء يأتي من الطابق الثاني.. كان النحيب لصوت سيدة مسنة..اشرت بالمصباح على السلم فوجدت يكتسي باللون الأحمر بلون ورائحة الدم..عرفت هذا عندما اعتليت ثلاثة درجات فانزلقت مرة أخرى إلى الاسفل.وامام وجهي مباشرة أقدام تشبه الي حد كبير أقدام حيوان لا أعرف ماهيته..رفعت وجهي إلى أعلى وكانت انفاسي تتصارع داخل قلبي الذي كنت أشعر انه في غير مكانه وان شئت قل كان موضعه في قدمي..عندما نظرت إليه كان مخلوق لا يوصف كان خليط من حيوان مثل الكلب او الذئب او الاثنين مجتمعين ولكن الاغرب من ذلك كان يرتدى ملابس أنيقة ومنمقة رغم وصفه كما قلت..مد إلى يده لكي اقوم من مكاني ولكني تراجعت إلى الخلف واختفى.. في نفس اللحظة أختفي هاتفي ولا اعرف أين أختفي..ولكن عيناي كانت بدأت التعود على المكان.. لأنه من المعروف ان تمتلك أعيننا سمتين رئيسيتين تساعدنا على الرؤية بشكلٍ أفضل في ظروف الإضاءة الخافتة؛ وهما: قدرة حدقة العين على التوسع والتضيق، بالإضافة إلى امتلاكها نوعين من الخلايا الحساسة للضوء.. غي نفس الوقت عاد صوت النحيب من جديد يخترق اذناي هذه المرة وكأنه صوت استغاثة..جثوت على ركبتي وصعدت الدرج مرة أخرى ولكن تلك المرة على أربع قدماي ويداي..وكلما اقتربت من الدور الثاني بدرجة سلم واحدة أشعر أن هناك شيء وصوت مزعج ورائحة كريهة خلفي وكلما نظرا خلفي لا أجد شئ ولكني ارجع درجة.. لاحظت ذلك فقررت الا اهتم بمن خلفي واصعد الدرجات بسرعة.. كانت الدرجات زلقة تماما ولكني رغم ذلك استطعت اخيراََ ان أصعد السلم وكان الصوت يقترب والبكاء شديد..وجدت نفسي أمام حجرة عليها من الخارج لافته مدير المعاشات..وقفت على الباب اتفقد ما ذلك النحيب وجدت نفس المخلوق الذي قابلته في الدور السفلى يجلس على مكتبه بكل كبر وتكبر، فاغر فاه وينزل من بين أسنانه لعاب باللون الأصفر وينظر إلى السيدة نظرة ذات مخذي.. أما السيدة التي مازالت تنتحب كانت سيدة في مقتبل العمر وتحمل على يديها طفل صغير..وفهمت أن لها معاش لزوجها وهناك بعض المشاكل في إخراجه..حاولت الدخول إلى المكتب.. نظر إلى الموظف المخلوق وبنظرة من عينه أخرج منها شعاع..اصطدم الشعاع بكل قوته في صدري ورجعت إلى الوراء واصطدمت في سور خشبي خلفي، فوجدتني في الدور السفلى أمام الشبابيك ملتصق بالأرض...نظرت إلى أعلى وجدت السيدة صاحبة المعاش تنزل من الدور الثاني وهي في منتهى السعادة ولكن كانت ملابسها غير مهندمة وتحاول لملمتها في توتر، ولكنها نظرت إلى نظرة لم أنساها ثم أزرفت دمعة دافئة فنزلت الدمعة على خد وليدها ثم خرجت من مكتب البريد عبر الحائط وأختفت.. هرولت مسرعاََ خلفها ولكني اصطدمت بالحائط ووقعت على الأرض.. بدأ الظلام ينقشع وتعودت عيناي على الرؤية..وجدت طابور طويل من الناس أمام موظف يشبة إلى حد كبير الثعلب الأخر ولكنه يلبس ايضاََ ملابس منمقة.. وكان الموظف خاص بتخليص الأوراق للمدارس والقروض وما شابه..ولاحظت أنه يأخذ الرشوة من الناس لتخليص اشغالهم.. فوقفت في الطابور خلف رجل مسن..كان الرجل ينتحب دون صوت ولما سألته ما بك يا عم.. قال إنه هنا منذ ثلاثة أشهر وكل يوماََ يقف في نفس الطابور ولأنه لم يدفع الرشوة المناسبة فإن الرجل كل مرة يطلب منه طلب تعجيزي..وعلى هذا الحال منذ ثلاثة أشهر لم يصرف مستحقاته من البريد..ثم بكى الرجل المسن بكاءََ شديد وعندما كنت أهم بمسح دموعه بمنديلي تركني الرجل وخرج من نفس المكان الذي خرجت منه السيدة منذ قليل..وهكذا كان المكان يعج بجمهور في بكاء ونحيب..وموظفين يشبهون الحيوانات في أشكالهم وتصرفاتهم.. تراجعت إلى الخلف ونظرت إلى مرآة كانت خلف ظهري ووجدتني فجأة اتحول إلى مخلوق جديد يشبه السيدة ويشبه الرجل في نفس الوقت ويشبه أشكال أخرى كلها مندمجة في شخص واحداََ وهو أنا.. وكنت أحمل في يدي اليمني زجاجة كبيرة مملؤة بالبنزين واليد الأخرى بها شعلة تشبه شعلة النار في الأفلام القديمة..وكل الموظفين واقفين خلفي منهم من يضرب بعصا على ظهري والآخر في أماكن أخرى..ولكني كنت أشعر بأنني أقوى منهم وبداخلي ألف مليون مظلوم ووقع الاختيار عليّ لأخلص الناس منهم.. وأضرمت النيران في المكان كله ، وتصاعدت السنة الدخان هنا وهناك .. ثم خرجت من الحائط من حيث خرج الأخرين وتركتهم في صرخاتهم يتقلبون.. وخارج مكتب البريد الملعون وقفت اتأمل أرواح الموظفين وهي تتصاعد واحداََ تلو الأخر إلى عنان السماء.. بقلمي.. #حسن_عبدالرحمن
المراجع